كم من إنسانٍ غزير العلم والمعرفة، واسع الإطلاع ولكنَّه شديد في تعامله إلى درجة الغلظة، قاسٍ في كلامه إلى درجة استخدام بعض الكلمات النَّابية حينما يخالفه مخالف أو يعترض عليه معترض، وما رأيت أحداً بهذه الصفة إلا شعرت بقيمة مصاحبة الأدب وتهذيب النفس للعلم والمعرفة، وأقصد هنا أدب النفس ودماثة الخلق وحسن التعامل ولين الجانب، فإن هذه الصفات من الآداب التي يحسن بطالب العلم والمثقف والعالِم والمفكر أن يتحلَّى بها، وأن يهذِّب نفسه وطباعه باعتمادها في تعامله مع الناس جميعاً، فللنفس البشرية آداب في خلوتها ومجالسها تحدَّث عنها العلماء، وخصُّوها بالعناية، ودرَّبوا عليها أنفسهم وطلابهم حتى أصبحوا في ذلك أمثلةً تستحق الإشادة.
إن مدرسة (الأدب والتهذيب النفسي) مدرسة نبوية مهمَّة، وضع لها أفضل الخلق - عليه الصلاة والسلام - أجمل الصفات وأكملها، وكان في حياته القدوة الصالحة الواضحة في هذه المدرسة العظيمة علماً وعملاً وليناً ورحمة ورفقاً، مع قوَّةٍ في الحق وثبات عليه، وإنَّ العالِم الذي ينفِّر الناس بغلظة طبعه وقسوته لبعيدٌ كلّ البعد عن هذه المدرسة النبوية التي وضع مناهجها في الآداب والسلوك والتعامل محمد صلى الله عليه وسلم.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القدوة الأولى في اقتران العلم بالعمل، والدعوة بحسن الخلق، وهو في ذلك يطبق ما أرسله الله به من الشرع الحكيم، ويحوِّل تعاليم القرآن الكريم إلى واقع (معاش) تراه العين، وتسمعه الأذن، وتلمسه اليد، ويكفي في تأكيد هذا وصف الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.. ولنا أن نتأمل هذا الوصف الشامل لخاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام في جملة (خُلُقٍ عَظِيمٍ) لندرك أننا أمام مدرسة جليلة في آداب النفس وتهذيب السلوك والأخلاق.
إن القرآن الكريم هو المصدر الأوَّل لتأديب النفس وتهذيبها، والآيات في ذلك واضحة الوضوح كلَّه، فالله سبحانه وتعالى يقول مخاطباً نبيَّه محمداً صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (199) سورة الأعراف ثم يرشده إلى أفضل طريقة للتخلُّص من نزغات الشيطان التي تحرف السلوك البشري إلى الغلظة في التعامل، فيقول سبحانه {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}.. إذن فإن مدرسة تأديب النفس وتهذيبها مدرسة نبويَّة كريمة يحسن بكل ذي علم ومعرفة أن ينتمي إليها ويفيد من مناهجها المستمدة من القرآن الكريم وسيرة سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام.
وهنا ندرك أن العالِم أو المفكر، أو المثقَّف - حسب مصطلح العصر - إذا لم يأخذوا أنفسهم بالتهذيب والتأديب، ولم يحرصوا على الالتحاق بالمدرسة النبوية في حسن الخُلق والتعامل سيكونون منفِّرين محرومين من فضل الخُلق العظيم، غير قادرين على كسب قلوب الناس وحبِّهم وتقديرهم، وهذا إخفاقٌ في الحياة، له آثاره السلبية في الدنيا، ويمكن أن يكون مصدر شقاءٍ لصاحبه في الآخرة.
إنَّ قيمة العلم ولذَّته في النفس، وأثره الكبير في نفوس المتعلمين لا تكتمل إلا بكمال أدب نفس العالِم، وجمال خُلقه، وحسن تعامله.
ويظل صاحب العلم الذي بعدت به طبيعته عن (أدب النفس) مصدراً للعلم عند من يحتاج إلى علمه، ولكنه مع ذلك سيبقى بعيداً عن الحب والتقدير الحقيقي ممن يتعلَّمون منه، لأن غِلْظة طبعه ستحول دون ذلك.
وما زلت أذكر عالِماً محققاً حضرت له مجلساً ذات يوم، وكنت شغوفاً بلقائه، كما كان شغوفاً به كثير ممن حضروا ذلك المجلس، فظهر لنا من غلظته وسوء بعض عباراته التي استخدمها، وبروز جانب الشدَّة في شخصيته ما جعلنا نأسف على أننا رأيناه على هذه الصفة التي شوَّشت على صورة مشرقةٍ كانت مرسومة له في أذهاننا، فما أجمل أن يجمع العالِم بين (العلم والأدب) وأن يكون أستاذاً في تعامله، كما أنه أستاذ في علمه.
[center]