بقلم الدكتور: عدنان علي رضا النحوي
لقد طرح مؤتمر الهيئة العامة السادس المنعقد في القاهرة (6-9/6/1423هـ الموافق 15-18/8/2002م) لرابطة الأدب الإسلامي العالميّة موضوعات ومصطلحات متعددة. لو طُرِحت هذه الموضوعات والقضايا والمصطلحات قبل نصف قرن أو أكثر في ميدان " الأدب العربي " آنذاك، لوجدت استهجاناً وغرابة من كثير من الأدباء ورجال العربية وعلمائها وشيوخها، إلا أولئك الذين كانوا وما يزالون يعملون في شبه خفاء، أو متردّدين بين الخفاء والإعلان، لأجل الحداثة ومذاهبها، بإصرار وعزيمة وتحدٍّ، لم يفطن له الكثيرون من الحريصين على اللغة العربيّة وعلى دين الله الحق ـ دين الإسلام.
وامتدت السنون حتى أخذت تلك الموضوعات ـ موضوعات الحداثة ومصطلحاتها ـ تبرز شيئاً فشيئاً، كأنها ماضية على نهج مدروس وخطة واعية، دون ارتجال ولا عفويّة. وقد ارتبط هذا البروز ببروز شيء آخر أوسع وأشدّ خطراً، ألا وهي العلمانية بزخرفها الكاذب وزينتها الخادعة وحليِّها المزيّفة، تدفعها إلى العالم الإسلامي دول قويّة، وأجهزة فعّالة متخصصة، ورجال أعطوا جهدهم للباطل ونصرته، ولمحاربة الإِسلام ولغته وأهله. يتم ذلك والمسلمون في غفلة وسبات!
أخذت تنتشر تلك الموضوعات والمصطلحات، فقابلها بعضهم بنفور ارتجالي، ورفض عاطفي، وضجيج آنيّ. ومع إصرار أهل الحداثة والعلمانيّة، ومع وهن المسلمين وتهاونهم، بدؤوا، أو بدأ بعضهم يألف تلك الموضوعات والمصطلحات، ومع إصرار أصحابها تحّولت الألفة إلى قناعة، ثم تحولت القناعة إلى ممارسة واتباع، ثمّ إِلى تَبَنٍّ ودفاع، ثم إِلى دعوة وصراع!
وكان هذا كله أول الأمر محصوراً برجال نفضوا أيديهم من الإسلام، ومن الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، فعُرفوا بالكفر والإلحاد الصريح، وسبّ الله ورسوله في صحفهم ومجلاتهم، في نثرهم وشعرهم. وانتقلوا إلى المجابهة الصريحة تدعمهم القوى الأجنبيّة تجود عليهم بالتكريم والجوائز و الأوسمة وأمثال ذلك، في دعمٍ علنيّ جريء، خلاف الدعم الخفيّ ! وتجود عليهم بالخطة والتوجيه والإعلام.
ومع إصرار أهل العلمانية والحداثة ممن هم من أبنائنا وأهلينا، مع إصرار هؤلاء وامتداد الدعم لهم، وضعف المسلمين وغفلتهم، أصبح بعض من ينتمي إِلى الإسلام ينادون بتلك الموضوعات ومصطلحاتها، وأفكارها نثراً وشعراً، وانتقل الفكر والمصطلح إلى قلب المسلمين، إلى قلب مجتمعاتهم، وإلى قلب الحركة الإسلامية!
وأصبحت ترى بعض تلك الأفكار والمصطلحات في الصحف الإسلامية ومجلاتها، وفي بعض الكتب الصادرة عن بعض أبناء الإسلام ودعاته، وأصبحت الفتاوى تنطلق بجرأة وعلانية لم تكن قبل ذلك ميسَّرة لأحد.
وأصبح هؤلاء هم الذين ينالون الحظوة والرعاية، وتُفْتح لهم الأبواب المغلقة، وتمتد الحفاوة، ويُسْكت عن آثامهم. ولا يتردّدون في أن يحتموا بكل ما يمدهم بالعون، رجالاً وأفكاراً، ومذاهب شتى. يحتمون بكل ألوان العصبية الجاهلية، حيناً بالقبليّة وحيناً بالوطنية، وحيناً بالإقليمية، وحيناً بالقومية، وحيناً بالعائلية، ينفذون من خلال ذلك إِلى أَوساط المسلمين فيعملون فيها فتنةً وفساداً، وهم يجدون لهم أَعواناً وأَنصَاراً.
لم تنحصر فتنتهم بالشعر أو النثر أو الأدب كله، بل امتدّت إلى الفكر والتصور والعمل. امتدت إلى القيم والمبادئ والعلاقات والروابط. وهم يُلحّون بمبادئهم من علمانيّة وحداثة في جميع الأوساط بإصرار.
أصبحت ترى من بين المسلمين أنفسهم من يدعو إلى " العلمانيّة " بوضوح وجرأة، ويقول إنها مساوية للإسلام بمقصودها. وأصبحت تجد من تفرَّغ للدعوة إلى الديمقراطية وهو داعية مسلم، ترك الدعوة إلى الإسلام وملأ الدنيا بدعوته إلى الديمقراطية. تغيّر مفهوم الحرّية إلى التفلّت من القيم، إلا تلك القيم التي تحمي المجرمين الظالمين. وأصبحت تجد من المسلمين من يدعو إلى مساواة المرأة بالرجل، أو الرجل بالمرأة، استرجلت بعض النساء، وتشبّه بعض الرجال بالنساء ! وأصبحت تجد ممن ينتمون إلى التفكير الإسلامي من يدعو إلى تطوير الفقه تطويراً يحلَّ ما حرّم الله. وتوالت نماذج شتى من الانحرافات لا تكاد تقع تحت حصر أو تُحَدّ بحدود، وكأنما الزمام أفلت!
لقد كان من أهم ما لجأ إليه أهل الحداثة والعلمانية الشعر، لمعرفتهم أنه الأوفر حظاً في اللغة العربية في الانتشار. فاستغلوه أسوأ استغلال وأقبحه، وأصابوا نجاحـاً غير قليل. استغلوا النغمة في الشعر ليشيعوا الفكر الذين يدعون إليه والفتنة والفساد، ثم استغلوها ليحوروها إلى نغمات مضطربة لا تقبلها أذن المسلم أولاً، لكنها تُرَدَّدُ وتُعاد حتى يُحْسَبَ النشازُ نغماً حلواً، والتفلّت شعراً منضبطاً، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق. وكان هذا ابتلاءً من الله سبحانه وتعالى ليمحّص النفوس ويكشف الوهَن الخبيء والمراءاة المطويّة، وربما كشفت الوثنيّة والشرك والكفر!
إنها سنّة الله سبحانه وتعالى أن جعل الحياة الدنيا دار تمحيص وابتلاء للناس كافة، حتى تقوم الحجَّة يوم القيامة عليهم أو تقوم لهم، على موازين قسط لا تظلم أحداً. كم من الناس لم تُعرَف حقيقتهم في الدنيا إلا من خلال ما سنّه الله من سنة الابتلاء والتمحيص، ومن خلال أحداث أو فواجع تكشف الموقف وما خبّأته الصدور.
لقد حملت إلينا العلمانية والحداثة الفكر اليوناني والروماني، وما حمل من أساطير وخرافات ووثنيّة وشرك. لقد أنزلت أوربا ذلك الفكر منزلة التقديس، ونُقِـل إلينا بهذا التصوير والتهويل في واقعنا المعاصر، دون أن نكون بحاجة إليه، ودون أن يحمل لنا خيراً يرضي الله سبحانه وتعالى.
لقد اتصل المسلمون بالشعوب كافة خلال تاريخ طويل. واتصلوا بفكرهم وأدبهم، اتصلوا بالفرس والهند والرومان واليونان، وقامت حركة ترجمة واسعة حين كان الإسلام هو القوي، وحين كان المسلمون هم الذين يحكمون. وكانوا يردّون كل ما يصل إليهم إلى ميزان حق في أغلب الأحيان، دون أن يمنع ذلك حدوث سقطات يدور حولها خلاف.
لقد رفض المسلمون كلَّ فنٍّ نابع من الوثنية مرتبط بها. رفضوا التماثيل والنحت والتصوير المنهيّ عنه، وأبدعوا في فنّ الزخرفة والبناء. وحافظوا على خصائص لغة الإسلام وخصائص الشعر وموسيقاه وفنّه دون أن يحرّفوه، ولكن طرقوا به أبواب الحياة وميادينها، وأبدعوا في فنون تلائم اللغة العربية، كالمقامات والرسائل وغيرها، وجعلوا من الشعر بأوزانه وقوافيه ميداناً ممتداً كالبحر، يطرق أبواب الحياة وآفاق الكون، دون أن يكون الوزن والقافية حاجزاً أو معيقاً. وإنما أخرجوا لنا فوائد وجواهر يعجز الشعر غير العربي عن بلوغها. عرف المسلمون ما يمكن أخذه والاستفادة منه، وأعادوا صياغته ليكون فنّاً إسلامياً صافياً. وأخذوا من العلوم التطبيقية، ثم أبدعوا فيها وأنشأوا علم الجبر واللوغاريثمات، وأبدعوا في الطب والفيزياء وعلوم أخرى.
أراد المسلمون أن يأخذوا ما يعينهم ليكونوا أمة قويّة عزيزة تحمل رسالة الله إلى الناس. أخذوا ما يزيدهم قوة ويعينهم على الدعوة والبلاغ والنفاذ إلى الشعوب كلها ليُقَدِّموا لها الخيرَ العظيم الذي يحملونه. لم يكن المسلمون أَتباعاً ولكنهم كانوا مبدعين يبنون حضارة إيمانيّة تحمل طهارة الإسلام ووجدان الإيمان والتوحيد، ويدركون حقيقة مسؤوليتهم في هذه الحياة ودورهم في الوفاء بالعهد والأمانة والعبادة والخلافة والعمارة. لذلك رفضوا أن يأخذوا ما يُفْسِد إشراقة الطهارة ونقاوة الإيمان وعظمة الإحساس بذلك كله، الإحساس بعظمة رسالتهم التي جعلتهم خير أمة أُخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.
هذا الشعور والإحساس، وصدق العاطفة والوجدان، لا تجده عند أولئك الذين حملوا العلمانية والحداثة إلينا، ثم انقلبوا علينا يعيبون علينا ما نعتزّ به، ويهاجمون ما نتمسِّك به لقد خرج من بيننا اليوم من يدعو بدعواتهم كما ذكرنا، ولكنهم قاموا بدور آخر ألا وهو مهاجمة الحق الذي لدينا. يدعون إلى الباطل ويحاربون الحق!
عابوا علينا الطهر الذي نعيشه، ورفضنا للرجس الذي غرقوا فيه. عابوا علينا التمسُّك بعبقرية لغتنا وجمال شعرنا وتميّزه من النثر، عابوا علينا عبقرية النغمة في شعرنا، يصوغها إِبداع الوزن وحلاوة القافية، وشرف ذلك كله.
وما كان لذلك من سبب إلا ما أصابنا من تفلّت عام وإقبال على الدنيا وشهواتها ولهوها ومتاعها، مما فتح للغرب ثغراتٍ كثيرة ينفذون منها إلى قلب العالم الإسلامي وأطرافه ونواحيه عدواناً وظلماً واحتلالاً، بجيوش زاحفة وآلات مدمّرة، ونحن في سكرات اللهو. فتتابعت الهزائم والفواجع، ومواقف الإذلال والهوان، وتتابع مسلسل التنازلات في جميع الميادين : الفكرية والأدبية والثقافية والسياسية والاقتصادية. ذلك بما كسبت أيدينا وبما ظلمنا به أنفسنا، فكان قضاء الله وقدره حقّاً لا ظلم معه أبداً.
ولم يقتصر الغزو على الغزو العسكري، وإنما رافقه أو سبقه أو لحق به غزو ثقافيٌّ وفكريٌّ واقتصاديٌّ، غزو شامل تعمل من أجله أجهزة ومؤسسات ودوائر وطاقات متفرغة لذلك.
أهـم سبب لذلك هو توقف الدعوة الإسلامية بمفهومها المحدّد في منهاج الله، توقّف الدعوة والبلاغ، وتبليغ رسالة الله ودينه إلى الناس كافّة كما أُنزِلت على محمد صلى الله عليه وسلم دون تحريف ولا تبديل. ولو نظرنا إلى التاريخ الإسلامي كله لوجدنا أنه كلما صدق المسلمون بحمل رسالة الله أعزّهم الله ونصرهم وحقق وعده لهم. وكلما تخلوا عن الدعوة وأمانتها أمةً واحدة، حقّق الله فيهم وعيده وأنزل فيهم عقابه.
لم يكن العدوان الغربي بجميع جيوشه وشعوبه على دار الإسلام هو السبب الأول لهواننا، ولكنّ السبب الأول كان هوانَ أنفسنا وإقبالنا على الدنيا و إدبارنا عن الآخرة، وغلبة الجهل على الملايين من المسلمين، الجهل بكتاب الله وسنة نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم، ثم الجهل باللغة العربية، ثم غلبة الأهواء التي تسلّل من خلالها شياطين الإنس والجن. ثم استبدلت شعوب منتسبة إلى الإسلام لغات أخرى باللغة العربية، وضعفت اللغة العربية في الشعوب العربية نفسها وبين المثقَّفين، وحتى بين بعض الذين تخصصوا بدراسة اللغة العربية :
مَـاليْ أَلـومُ عَدوّي كلَّمـا نزلـت
بيَ المصائـب أو أرميـه بـالتُّهَـمِ
وأدّعي أبداً أنـي الـبـريء ومـا
حملتُ في النفـس إلا سقطـة اللمم
أنا الملـوم ! فعـهـد الله أحملـه
و ليس يحملـه غـيري من الأُمـم
[center][justify]